سـورة الفلق
في هذه السورة الكريمة يبيِّن لنا تعالى أن الالتجاء إليه يُخلِّصنا من الشرور كلِّها ويجعلنا في مأمن منها.
وقد سلكتْ بنا هذه السورة في بيانها الطريقة التي سلكتها سورة الناس من قبلها، فذكرتْ لنا عظمة ربنا لتذعن نفوسنا إليه وتقبل عليه إقبالاً صادقاً بعد أن بيَّنت لنا الثمرة التي نجنيها من التجائنا والفائدة التي نحصل عليها من اعتزازنا بربِّنا.
وإذا كانت سورة الناس كدرس أوّلي تعرِّف الإنسان أوَّل ما تُعرِّفه بربِّه، وتُبيِّن له أنَّ الاعتزاز به تعالى يخلِّصه من شر الشيطان في نزغه ووساوسه، فهذه السورة، سورة الفلق، تنتقل بالإنسان إلى أفق أعلى من ذلك، فتبيِّن له أنَّ ربَّه الذي يلتجئ إليه هو ربّ الكون كله والممدّ بالحياة لهذا الوجود جميعه، ثم هي بعد ذلك تُفصِّل لنا الشرور التي نخلص منها إذا نحن التجأنا إلى ربِّنا ولذلك قال تعالى:
{ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ }:
هذه الآية الكريمة تدعونا إلى الالتجاء إلى الله، والاعتزاز به تعالى ( قُلْ أَعُوذُ ) قل: خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي قل لعبادي وبلِّغهم أن يلتجؤوا إلي، ثم هي خطاب للإنسان ذاته.
قل لنفسك أيها الإنسان أن تعتز وتلتجئ إلى ربِّ الفلق، فما هو الفلق؟.
الفلق: مأخوذة من فَلَقَ، وفَلَقَ أظهر الشيء بعد احتجابه، وكشف عنه الظلمة، والفلقُ هنا: كلمة جامعة تشمل كل ما أظهره الله تعالى، وما سيظهره إلى الوجود، مما كان موجوداً في علمه تعالى من قبل في عالم الأزل، يوم إيجاد الأنفس، وينطوي تحت كلمة ( الفلق ): الأرض والسماء، والشمس، والقمر، والحر، والبرد، والليل والنهار، والإنسان والحيوان، لا بل كل شيء أوجده الله في هذا الكون، أو سيوجده أو يُظهره إلى العيان، وعالم الصور والأجساد.
فالله سبحانه ربُّ الفلق، أي: هو المربِّي الممد لكل ما في الكون بالحياة، ولكن من أي شيء نعوذ بربِّ الفلق؟. لقد بيَّن لنا تعالى ذلك بقوله:
{ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ }:
والشر: هو الشهوة الخبيثة التي تتولَّد في نفس المخلوق عند إعراضه عن الله.
وأما في هذه الآية فإنما تعني الأذى المتولِّد عن الشهوة والضرر الناشئ عنها بعد خروجها من النفس إلى حيِّز العمل.
وخَلَقَ: هنا تعود على الله، فبالله تعالى يكون الخلق، أي: يكون خروج ما في النفس إلى الوجود، ومنه تعالى يكون الإمداد بالفعل، فالمخلوق يشتهي ويختار في نفسه، وبعد ذلك يحصُلُ الخلق من الله تعالى، ويكون مجمل المعنى في قوله تعالى: { مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ }:
أي: أعوذ بالله مما ينبعث عن المخلوق من أذى وضرر خَلَقَهُ الله عند شهوة هذا المخلوق واختياره.
{ وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ }:
والغاسق: هو المظلم، مأخوذة من الغسق، وهو الظلمة الشديدة، والمراد بالغاسق هنا: الشيطانُ، فهو بإعراضه عن الله وبعده عنه أصبح مُظلِم النفس.
ووقَب: أي دخل في الوقب. والوقب:هو الحفرة في الصخرة يجتمع فيها الماء، وهو الكوَّة العظيمة، أي: النافذة، والمراد بالوَقَبِ هنا: صدْر الإنسان فإذا أعرض الإنسان عن الله جاءه الغاسق، ودخل ووقب في صدره. وجعل يُخيِّلُ للنفس ليُخْرِج منها الأشياء المؤذية التي تولَّدت فيها من جرَّاء إعراضها عن ربِّها، وبهذا التخييل والتزيين يحصل العزم على تنفيذ الشَّهوة، فإذا استمرَّت النفس على إعراضها، وأصرَّت على شهوتها وفعلت ما زيَّنه الشيطان لها، فهنالك يعود عليها فعلها الخبيث بسيء العذاب وأليم الوجع، وذلك العذاب والألم هو الذي يتسبَّب عن الغاسق.
فبالالتجاء إلى الله تَخلُص النفس من العذاب والشقاء الذي يتولَّد عن الفعل الخبيث الناشئ عن تزيين الشيطان وتخييله.
وهذه الآية التي شرحناها الآن مرتبطة أوثق ارتباط بالآية التي قبلها، إذ إنها تبيِّن لنا أن الشر الذي يقع علينا من غيرنا من المخلوقات ناشئ ومنبعث عن الأعمال الخبيثة التي زيَّنها لنا الشيطان، فقمنا بها وآذينا بها غيرنا من الخلق، ويوضِّح لنا ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:
« اللهم إني أعوذ بك من شرِّ نفسي، ومن شرِّ كلِّ دابةٍ أنت آخذٌ بناصيتها، إنَّ ربِّي على صراطٍ مستقيم » انظر سورة هود (56)، وانظر مسلم في الذكر والدعاء باب ما يقال عند النوم وأخذ المضجع.
فهذا الدعاء يوضِّح لنا ما جاء في هذه السورة، ويبيِّن لنا شرَّ نفوسنا، أي إن الأذى الذي يقع منا على غيرنا يعود علينا بأذى ينبعث عن مخلوق من المخلوقات، وقد بيَّن لنا هذا الدعاء أيضاً أنه لا يصيبنا شيء إلا بإذن الله ضمن الحق، فإن نحن فعلنا ما نستحق عليه التأديب، أعاد علينا أذانا بواسطة دابة من الدواب، أي كل مخلوق يدبُّ على الأرض، وذلك ما تعنيه كلمة ( دابة أنت آخذ بناصيتها ) الواردة في الحديث الشريف.
فما من شرٍّ يقع علينا إلاَّ وقد سبقه شرٌّ صدر منا، وأوقعناه نحن على غيرنا، قال تعالى:
( أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) سورة آل عمران: (165).
{ وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ }:
والنفَّاثات: مأخوذة من النَفَثِ، والنَفَثُ: هو ما يلقيه الإنسان من فيه (فمه) من البصاق، والنفث: هو الإلقاء والرمي، يُقال: نَفَثَتِ الأفعى السُّمَّ: إذا أَلْقَتْهُ ورمتْ به في جسم الملدوغ، فالأفعى والحالة هذه نافثة.
وإذا أردت المبالغة وتكرّر صدور الفعل منها، قلتَ: نفَّاثة، الجمع: نفَّاثات: والنفَّاثات إذاً: الملقيات.
المراد بالنفَّاثات في هذه الآية الكريمة: الساحرات.
والعقد: جمع عقدة، والعقدة: هي كل شيء يمكن إبرامه وإحكامه، والعقدة: كل ما يملك الشيء ويوثقه. والمراد بالعقد في هذه الآية: الروابط الاجتماعية كعقدة النكاح التي تربط وتوثق العلاقة بين الرجل وزوجته، والروابط التي تربط بين الصديق وصديقه.
والمراد بالنَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ: الأنفس الشريرة التي تتخذ السحر وسيلة تتوصَّل به إلى مآربها الدنيئة.
فالسواحر نفَّاثات، لأنهنَّ يُلقين ما في نفوسهن من خبث ومكر، فيكون من عملهن هذا الإفساد بين شخص وشخص.
ونفْثُ الساحر كما يُفهم من كلمة ( فِي الْعُقَدِ ) الواردة في هذه الآية يكون على صورتين:
1ـ فإمَّا أن يكون مراده من نفثه إيجابياً، وهو التقريب والجمع بين شخص وشخص، ويكون عزمه منصرفاً إلى عقد العقدة وإنشاء الرابطة غير المشروعة.
2ـ وإما أن يكون مراده من نفثه سلبياً، وذلك بالتفريق وإلقاء العداوة والبغضاء بين المرء وزوجه وبين الفرد والفرد كما نزغ بين سيدنا يوسف وإخوته (... مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي ) سورة يوسف (100). وتكون بغيته في هذه الحالة هادفة إلى حلِّ العقدة وإفساد العلاقة القائمة. قال تعالى:
(.. فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ) سورة البقرة: (102).
ولكن كيف ينبعث الأذى من الساحر إلى المسحور، وكيف تستطيع النفاثات التأثير على أحد الأشخاص؟.
1ـ فمن حيث الظاهر: الساحر في نفثه يسوق الشيطان نحو المسحور ؛ ويستخدمه في التخييل إليه بما يرغب من الخيالات.
2ـ ومن حيث الباطن: الشيطان يستخدم الساحر فيتوصَّل بواسطته إلى المسحور، فيخيِّلُ إليه ما يشاء مما فيه إيقاع الأذى وإنزال الضرر، وبشيء من التفصيل نقول:
إن الساحر عندما يتَّجه إلى المسحور يسري شعاع نفسه إليه، فينتهز الشيطان هذه الفرصة ويسري في ذلك الشعاع ويدخل فيه على المسحور، وهنالك يخيِّل له ما يشاء من إنشاء روابط، أو نقضٍ، أو حلّ للعلاقات القائمة.
والحقيقة كل الحقيقة: أن الساحر لا يُمكَّن من سَوْق الشيطان. وكذا الشيطان لا يستطيع استخدام نفس الساحر، إلا إذا كان المسحور امرءاً ظالماً من قبلُ مستحقاً لذلك الأذى الذي يشترك الشيطان والساحر في إيقاعه عليه. قال تعالى:
(... وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ ) سورة البقرة: الآية (102).
وإذاً الشهوة الخبيثة التي تتولَّد في نفس الإنسان عند إعراضه عن الله، وذلك الأذى الذي ينبعث منها ويوقعه المرء بغيره ؛ هو الذي يعيد على الإنسان عمله فيجعل هذين الشريكين الخبيثين يتسلَّطان عليه ويسحرانه، ولو أنه كان مُقبلاً على الله لما فعل شرّاً، ولما ناله منهما ضرر ولا أذى.
فالالتجاء إلى ربِّ الفلق إذاً يخلِّصنا من شرِّ النفَّاثات في العقد.
{ وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ }:
والحاسد: هو امرؤ مُعرض عن الله، يرى النعمة على غيره فيستهويها ويستحبّها، ويتمنَّى زوالها عن صاحبها ومجيئها إليه.
وإذا حسد: أي إذا قام بالحسد وصَدَرَ منه ذلك الاستهواء، والاستحباب لتلك النعمة، أما الأذى المتولِّد عن حسده فهو ما يسمُّونه في العامّية: بالإصابة بالعين.
ولعلك تقول: كيف يقع الأذى من الحاسد على المحسود؟.
فأقول: إن الحاسد عند رؤية النعمة واستهوائه الشديد لها، تسري نفسه نحو نفس المحسود، حتى إنها لتلامسها وتصطكّ بها، ويشتبك شعاعها بشعاعه، وهنا يتهيأ السبيل للشيطان، فيتخذ من نفس الحاسد مسلكاً وطريقاً يمرُّ به إلى نفس المحسود، فيوقع ما يوقعه من المرض والمضرَّة، وتكون نفس الحاسد آنئذٍ بالنسبة للشيطان كالسلك بالنسبة إلى القوى الكهربائية، ولولا ذلك الحاسد لما وَجَد الشيطان سبيلاً يتوصَّل به إلى نفس المحسود، ولو أن المحسود كان مُقبلاً على الله مُلتجئاً إليه لما استطاع الشيطان أن يدخل في نفسه، ولما تمكَّن من إيذائه والإضرار به، ذلك لأن الإقبال على الله يجعل النفس مُحاطة من جميع جهاتها بنوره تعالى، وبذا تصبح في حرزٍ منيع، ويقف ذلك النور الإلهي سدّاً بينها وبين الشيطان، فإذا أراد اختراقه هَلَكَ واحترق.
والتجاؤك إلى الله كما يحفظك من شرِّ الحاسد يحفظك أيضاً من أن تكون نفسه مرتبطة بنفسك، أو من أن تكون نفسك مرتبطة بنفسه، ومتجهة إليه.
فأهلك وأولادك، حتى الأشياء التابعة لك، وكذلك جميع الأشخاص الذين تحبُّهم ويحبُّونك يُحفظون بوجهتك إلى الله من الإصابة بالعين، وتلك الإصابة هي شرُّ الحاسد. وأخيراً نختم القول فنقول:
الإقبال على ربِّ الفلق، والالتجاء الدائم إليه، يحفظ الإنسان من كلِّ الشرور ويدفع عنه جميع ما يكره وما قد يقع عليه من السوء والضرر.
والحمد لله رب العالمين
هذا الفيض من علوم العلامة الكبير محمد أمين شيخو في كتاب تأويل جزء عم